قالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ مِمَّنْ أَلَّفَ فِي قِصّةِ المَوْلِدِ الشَّرِيفِ

مولد الحبيب صلى الله عليه وسلم

قالَ بَعْضُ العُلَمَاءِ مِمَّنْ أَلَّفَ فِي قِصّةِ المَوْلِدِ الشَّرِيفِ:

حملت ءامنة بنت وهب برسول الله صلى الله عليه وسلم عشية الجمعة أول ليلة من رجب، وإن ءامنة لما حلمت برسول الله صلى الله عليه وسلم كانت ترى الطيور عاكفة عليها إجلالا للذي في بطنها، وكانت إذا جاءت تستقي من بئر يصعد الماء إليها الى رأس البئر إجلالا وإعظاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرت بذلك زوجها عبد الله فقال: هذه كرامة للمولود الذي في بطنك، قالت: وكنت أسمع تسبيح الملائكة حولي وسمعت قائلا يقول: هذا نور السيد الرسول ثم رأيت في المنام شجرة وعليها نجوم زاهرة بينهن نجمة فاخرة أضاء نورها على الكل، وبينما أنا ناظرة إلى نورها واشتعالها إذ سقطت في حجري وسمعت هاتفًا يقول هذا النبي السيد الرسول، ثم أتاني ملك ومعه ورقة خضراء فقال: إنك قد حملت بسيد المرسلين ونبي المؤمنين، قالت فانتبهت من نومي مرعوبة وحدثت بذلك زوجي فقال: قومي إلى خليفة بن عتاب يفسر لك هذا المنام، قالت فأتيت إليه وقصصت عليه هذا المنام فقال: الشجرة إبراهيم الخليل والنجوم الزاهرة هم الأنبياء من أولاده والنجمة الفاخرة التي علا ضوؤها على الكل فهو نبي يظهر في هذا الزمان يكسر الأوثان ويعبد الرحمن، وأما سقوطها في حجرك فسوف تلدينه وسيعلو مكانه وينتشر في المشرق والمغرب برهانه، فرجعتُ إلى منزلي فرحة مسرورةً. ومرض عبد الله ومات بالمدينة ولآمنة ستة أشهر وهي حامل برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومات عبد الله وكان عمره تماني عشرة سنة كما صححه الحافظ صلاح الدين العلائي، ولما مات ضجت(1) الملائكة إلى باريها وقالت: إلهنا يبقى نبيك وحبيبك يتيماً، قال الله تعالى: (2) "يا ملائكتي أنا أولى بحفظه من أمه وأبيه، وأنا خالقه ورازقه ومربيه، ومظفره على أعاديه، ولي تدبير ذلك وأنا على كل شيء قدير"، ولما حملت ءامنة برسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر صفاء يقينها، وانطوت الأحشاء على جنبيها، وسطع نور محمد صلى الله عليه وسلم على جبينها، قالت ءامنة بنت وهب: لما كان أول شهرمن شهوري شهر الله رجب، فبينما أنا ذات ليلة إذ دخل عليَّ رجل حسن الوجه طيب الرائحة وهو يشير بيده إلى فؤادي ويقول: مرحباً مرحباً بك يا محمد، فقلت له: سيدي من أنت؟ قال: أنا ءادم، فقلت: ما تريد يا أبا البشر؟ قال: أبشري يا ءامنة بسيد البشر، وفخر ربيعة ومضر، ومن ينشق له القمر، ويسلم عليه الحجر، ويسعى إلى خدمته الشجر.
فلما كان في الشهر الثاني دخل علي رجل جليل القدر وهو يشير بيده إلى فؤادي ويقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا خليل الله، السلام عليك يا صفوة الله، قلت له: سيدي من أنت؟ قال: أنا شيث، قلت: وما تريد يا شيث؟ قال: أبشري يا ءامنة فقد حملت بالنبي الكريم، والسيد العظيم ، الضب له يكلم، والحجر له يسلم، ثم انصرف.
فلما كان في الشهر الثالث دخل علي رجل له سكينة ووقار، وعليه ضياء وأنوار، وهو يشير بيده إلى فؤادي ويقول: السلام عليك يا مزَّمّل، السلام عليك يا مدَّثّر، قلت له: سيدي من أنت؟ قال: أنا النبي إدريس، فقلت: وما تريد يا إدريس؟ قال: أبشري يا ءامنة فقد حملت بالنبي الرئيس، والجوهر النفيس، صاحب التسبيح والتقديس، ثم انصرف.
فلما كان في الشهر الرابع دخل علي رجل أسمر، مليح المنظر، وهو يشير بيده إلى فؤادي ويقول: السلام عليك يا صادق، السلام عليك يا صفوة الكريم الخالق، فقلت له: سيدي من أنت؟ قال: انا نوح، فقلت: وما تريد يا نوح؟ قال: أبشري يا ءامنة فقد حملت بالنبي الممنوح، صاحب النصر والفتوح، الذي ذكاؤه في الآفاق يفوح، ثم انصرف.
فلمّا كان في الشهر الخامس دخل علي رجل حسنه مكمل، ووجهه مجمل، وهو يشير بيده لى فؤادي ويقول: السلام عليك يا زين المرسلين، السلام عليك يا إمام المتقين، قلت له: سيدي من أنت؟ قال: أنا نبي الله هود، قلت وما تريد يا هود؟ قال: أبشري يا ءامنة فقد حملت بالنبي المسعود، والرسول المحمود، صاحب الكرم والجود، واللواء المعقود، ثم انصرف.
فلما كان في الشهر السادس دخل علي رجل جليل المقدار كثير الأنوار وهو يشير بيده إلى فؤادي ويقول: السلام عليك يا حبيب المحبوب، السلام عليك يا بغية المطلوب، فقلت له: سيدي من أنت؟ قال انا إبراهيم الخليل، قلت: ما تريد يا إبراهيم؟ قال: أبشري يا ءامنة فقد حملت بالنبي الجليل والرسول الفضيل، ثم انصرف.
فلما كان في الشهر السابع دخل علي رجل أملح، ووجهه من البدر أصبح، وهو يشير بيده إلى فؤادي ويقول: السلام عليك يا صفوة الإله، السلام عليك يا عظيم الجاه، فقلت له: سيدي من أنت؟ قال: انا أبوه إسماعيل الذبيح، فقلت له: سيدي وما تريد قال: أبشري يا ءامنة فقد حملت بالنبي المليح، صاحب النسب الصحيح، واللسان الفصيح، ثم انصرف.
فلما كان في الشهر الثامن دخل علي رجل طويل القامة، مليح الهامة، وهو يشير بيده إلى فؤادي ويقول: السلام عليك يا إمام الأبرار، السلام عليك يا حبيب المَلِكِ الجَبَّارِ، فقلت له: سيدي من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران، فقلت : وما تريد يا موسى؟ قال: أبشري يا ءامنة فقد حملت بمن ينزَّل عليه القرءان، ويكلمه(3) الرحمن، ويزين به الثقلان، ثم انصرف.
فلما كان في الشهر التاسع دخل علي رجل لابس الصوف، وهو بالعبادة موصوف، فأشار بيده إلى فؤادي وهو يقول: السلام عليك يا زين الخلائق، السلام عليك يا مظهر الحقائق، فقلت له: سيدي من أنت؟ قال أنا عيسى ابنُ مريم، فقلت:ما تريد يا عيسى؟ قال أبشري يا ءامنة فقد حملت بالنبي الأكرم، والعطوف الأرحم،وفي هذا الشهر تضعين محمدًا صلى الله عليه وسلم.
فلما دخل شهر ربيع الأول في اثنتي عشرة ليلة خلت منه وهي ليلة الاثنين من الليالي البيض اللاتي ليس فيهن ظلام، وكان عبدالمطلب قد خرج يطوف بالبيت هو وأولاده ولم يبق عند ءامنة ذكر ولا أنثى وقد أغلق عبد المطلب عليها الباب خوفاً عليها من طارق يطرقها، قالت ءامنة: وبقيت في المنزل وحيدة إذ سمعت حركة بين السماء والأرض ورأيت ملَكًا عظيماًًً بيده ثلاثة أعلام، فنشر الأول على مشرق الأرض، والثاني على مغربها، والثالث على البيت الحرام، قالت ءامنة: لما كانت الليلة الثانية عشرة من شهر ربيع الأول أحسست بالذي في بطني يريد النزول فلحقني البكاءُ لوحدتي في المنزل وليس عندي أحدٌ فنظرت إلى ركن المنزل وقد ظهر منه أربع نساءٍ طوال كأنهن الأقمار متزراتٍ بأزرٍ بيضٍ يفوح الطيب من أعطافهن، فقلت لهن: من أنتن اللاتي منَّ الله عليَّ بكُنَّ في وحدتي، وفرجَّ بكنَّ كربتي؟ قالت الأولى: أنا مريم بنت عمران والتي على يسارك سارة زوجة إبراهيم والتي تناديك من خلفك هاجر أم إسماعيل الذبيح والتي امامك ءاسية بنت مزاحم امرأة فرعون، فاستبشرت بهنَّ وفرحت فرحًا عظيمًا. فتقدمت الأولى وقالت: أبشري يا ءامنة من مثلك وقد حملت بسيد أهل الأرض والسماء، ومصباح الدنيا وخاتم الأنبياء، والحبيب المصطفى ثم جلست عن يميني. ثم تقدمت الثانية وقالت: من مثلك يا ءامنة فقد حملت بالحبيب الأعلى، والمشفع في الخلق غداً، أفضل من وطئ الثرى والحصى. ثم تقدمت الثالثة وقالت: يا ءامنة نهنئك بسيد البشر، وفخر ربيعة ومضر، ومن ينشق له القمر، ويكلمه الشجر والحجر ثم تقدمت الرابعة وهي أكبرهن هيبة وأكثرهن بهجة ونادت: يا ءامنة من مثلُكِ وقد خُصصتِ بالمبعوث بالفضائل والمفاخر، صاحب المعجزات والمآثر، ثم جلست بين يدي وقالت: ألقي بنفسك علي، وميلي بكليتك إلي، قالت ءامنةُ: فجعلت أنظر إلى أشباح يدخلون عليَّ أفواجًا يهنئونني وأنا حيرانةٌ وهم يخاطبونني بخطاب لم أسمع قط أحلى منه ولا أرق.
وأنشد لسان الحال:
يا رَبَّنَا مُنْشِئَ الأشْيَاءِ مِن عدَمِ **** صَلّ وَسَلّمْ عَلََى مَن عِشْقه يَجبُ
رَاقَ الزَّمَانُ فَزَالَ الهَمُّ وَالنّصبُ *** وَاخْتَفَى الشّرْكُ وَالعصْيَانُ وَالرّيَبُ
وَأصْبَحَ الكَوْنُ فِيْ يُسْرٍ وَفِيْ فَرَج *** يَقُولُ قَدْ جَاءَ مَنْ بِالفَخْرِ(4)يَنْتَسِبُ
هَذَا أوَان تَمَامِ الحَمْلِ مِنْهُ وَمَا***بَقِيْ سوَى أنَّهُ بِالوَضْعِ يَقْتَربُ
هَذَا الَّذِي لا يُضَاهَى فِي مَحَاسِنِهِ *** وَمِنْ سنَاهُ مَعَالي الفَضْلِ تُكْتَسَبُ
مُنَزَّهٌ عَنْ شَرِيكٍ في مَحَاسِنِهِ *** فَعَنْهُ بَدْرُ الدُّجَى فِي الحُسْنِ يَحْتَجِبُ
يا أكملَ الخَلْقِ يَا مَنْ لا مُضَاهِيَ لَهْ *** يَا كَامِلَ الحُسْنِ أَنْتَ السُّؤْلُ وَالأَرَبُ
جَمَعْتَ فِي الحُسْنِ أَوْصافًا كَمَا جُمِعَتْ *** لَك َالمَلاحَةُ يا مَنْ عِشْقُهُ يجبُ
أنْتَ المُرادُ وأَنْتَ القصْدُ أَجْمَعُهُ *** يَا مَنْ لَهُ كَرَمٌ يَا مَنْ لَهُ رُتَبُ
صَلَّى عَلَيْكَ إلهُ العَرْشِ مَا طَلَعَتْ *** شَمْسُ النَّهَارِ وَمَالَ الظّلُّ يَغْتَرِبُ
قالت ءامنة: وفي تلك الساعة رأيتُ الشهبَ تتطاير يمينًا وشمالاً، ورأيتُ المنزلَ قد اعتكر علي بأصواتٍ مشتبهاتٍ ولغاتٍ مختلفاتٍ فأوحى الله تعالى إلى رضوان: يا رضوانَ زين الجنان، وصف على غرفها الحورَ والولْدَان، فتبادرت بزينتها الحور الحسان، وأشرفت من غرفِ الجنانِ وأزهرت الأوراقُ والأشجارُ والأغصانُ، وقطرت قطراتُ الرحمةِ على أوراقِ الأفنانِ، واهتز العرشُ طربًا، ومال الكرسيُّ عجبًا، وخرتِ الملائكةُ سجدًا وماجَ الثقلانِ، وأظهرَ سرَّهُ الملكُ الدَّيَّانُ(5) المنزهُ عن السكونِ والحركةِ والانتقالِ والمكانِ، تعالى ربنا ذو الجلال.
ثم إنَّ الله تعالى أوحى إلى جبريلَ أن صفَّ أقداحَ راحِ الشرابِ، للكواعب الاترابِ، وانشر نوافحَ المسك الذّكيّةِ، وعطّرِ الكونَ بالروائح الطيبة الزكية، وافرش سجادةَ القُربِ والوصالِ، للمصطفى المصلِّي في محرابِ الكمالِ، وقيل يا مالك أغلق أبوابَ النيرانِ، وصفَّدِ الشياطينَ لهبوط الملآئكةِ المقربين، ونُودي في أقطار السماوات فهبطَ الأمينُ إلى الأرض بالملآئكةِ المقربينَ وقد حجبتهُم سحابةٌ من الكافور الأبيض، فرجعت برياحِ الرحمةِ من مجاري سحب الكرامةِ تَرْبَض، ورفرفتِ الأطيار، وجاءتِ الوحوشُ من القفارِ، وكلُّ ذلك بأمر الملكِ الجبَّارِ. قالت ءامنةُ ولم يأخذني ما ياخذُ النساء من الطلقِ إلاَّ أنِّي أعرقُ عرقًا شديدًا كالمسكِ الأذفرلم أعهدهُ قبل ذلك من نفسي، فشكوت العطشَ، فإذا بملَكٍ ناولني شَرْبةً من الفضةِ البيضاءِ فيها شرابٌ أحلى من العسلِ وأبردُ من الثلجِ وأزكى رائحةً من المسكِ الأذفرًِ، فتناولتُهَا فشربتُهَا فأضاءَ عليَّ منها نورٌ عظيمٌ، فحِرْتُ لذلك وجعلتُ أنظرُ يمينًا وشِمالا وقد اشتد بي الطلقُ، فبينما أنا كذلك فإذا أنا بطائرٍ عظيمٍ أبيضَ قد دخلَ عليَ وأمرَ بجانِبَةِ جناحيهِ على بطني وقال: انزل يا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم فأعانني عالمُ الغيبِ والشهادةِ على تسهيل الولادةِ فوضعتُ الحبيبَ محمدًا صلى اللهُ عليهِ وسلمَ فانجلى حِنْدِسُ الظُلَمِ ونطق لسان حالِهِ ينشد ويقول:
المُصْطَفَى خيْرُ العَوالمِ أَحْمَدُ *** يَا سَادَتِي صَلَّوا عَلَيْهِ لِتَسْعَدُوا
صَلَّى عَلَيْكَ الله يَا عَلَمَ الهُدَى *** يَامَنْ لهُ اسمٍهُ احمَدٌ وَمُحَمَّدُ
وُلِدَ الحَبِيبُ وَخَدُّهُ مُتَورّدُ *** وَالنُّورُ مِنْ وَجنَاتِهِ يَتوقَّدُ
جبْرِيلُ نَادَى فِي مَنَصَّةِ حُسْنِهِ *** هَذَا مَلِيحُ الوَجْهِ هَذَا الأَوْحَدُ
هَذَا جَمِيْلُ النَّعْتِ هَذَا المُرْتَضَى *** هَذَا جَلِيلُ الوَصْ/فِ هَذَا أَحْمَدُ
هَذَا الوَفِيُّ بِعَهْدِهِ هَذَا الذِي **** مَنْ قَدَّهُ يَا صَاحِ غُصْنٌ أَمْلَدُ
هَذَا الذِي خُلِعَتْ عَلَيهِ مَلاَبِسٌ *** وَنَفَائِسٌ فَنَظِيرُهُ لا يُوجَدُ
قَالَتْ مَلاَئِكَةُ السَّمَاءِ بِأَسرِهمْ *** وُلِدَ الحَبِيبُ وَمثلُهُ لا يُوْلَدُ
وُلدَ الذي لَوْلاهُ مَا ذُكِرَتْ قُباَ *** أَبَدًا وَلا كَانَ المُحَصَّبُ يُقْصَدُ
يَا عَاشِقينَ تَوَلّهُوا فِي حُسْنِهِ *** فَبِحُبّهِ مِنْ نَارِ مَالِكِ تُنْقَذُ
يَا مَوْلِدَ المُخْتَارِ كَمْ لَكَ مِنْ ثَنَا *** ومدائحٍ تَعْلُو وَذِكْر مُوْجَدُ
قالت ءامنةُ: لقد علقتُ بهِ فما وجدتُ لهُ مشقةٌ حتى وضعتُهُ فلما خرجَ مني خرجَ معه نورٌ أضاء له المشرقُ والمغربُ. وولدَ صلى اللهُ عليهِ وسلم مكحولا مدهونًا مسرُورًا مختونًا، وحين ولدَ سارعت إلى طلعتِهِ المباركةِ ثلاثةٌ من الملائكةِ مع أحدهِم طستٌ من الذهبِ ومع الثاني إبريقٌ من الذهب ومع الثالثِ منديل من السندسِ الأخضر وغسلُوهُ بماء الرحيقِ وأنشدَ لسانُ الحالِ:
يَا رَبَّنا يَا إلهِي خَالِقَ البَشَرِ *** صَلّ وسلّمْ عَلَى المُخْتَارِ مِن مُضَرِ
يَا لَيْلَةَ المَوْلِدِ الزَّهْرَاءَ كَم شَرَفًا *** حَوَيْتِ بِالمُصْطَفَى المُخْتَارِ مِن مُضَرِ
يَا لَيْلَةً مَا تُجَارى فِي فَضَائِلِهَا *** لأَنَّهَا فِي الليالي غُرّةُ القَمَرِ
يَا لَيْلَةً مَا لَهاَ فِي الدَّهْرِ ثَانِيَةٌ *** لأَنَّ جَوْهَرهَا فَرْدٌ لِذِي النَّظَرِ
يَا لَيْلَةً مِنْ سَنَاها قَدْ حَوَتْ شَرَفًا *** بِالمُصْطَفَى سَيّدِ الأَمْلاَكِ وَالبَشَرِ
إنْ كَانَ مُوسَى سَقَى الأَسْبَاطَ مِنْ حَجَرٍ *** فَإنَّ فِي الكَفّ مَعْنىً لَيْسَ فِي الحَجَرِ
إنْ كَانَ عِيسَى بَرَا الأَعْمَى بِدَعْوَتِهِ *** فَكَمْ بتَفْلَتِهِ قَدْ رَدَّ مِنْ بَصَرِ
صَلَّى عَلَيْكَ إلهُ العَرْشِ مَا صَدَحَتْ *** وُرْقُ الحَمَامِ وَهَبَّتْ نَسْمَةُ السَّحَرِ
قالت ءامنةُ بنتُ وهبٍ: فلمّا وضعتُ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم رأيتُهُ رافعًا رأسُهُ إلى السَّماءِ مُشيرًا بإصبَعِهِ، فاحْتَمَلَهُ جبريلُ وطارت به الملائكةُ، ولفَّهُ ميكائيلُ في ثوبٍ أبيضَ من الجنةِ، وأعطَاهُ إلى رضوانَ يزقُّهُ كما يزقُّ الطيرُ فرخَهُ، وكنتُ أنظرُ إليهِ كأنهُ يقول زدني، فقالَ له رضوانُ: يكفيكَ يا حبيبَ اللهِ، فما بقي لنبيٍّ علمٌ وحلمٌ إلا أُوتِيتهُ، فاستمسك بالعروة الوثقى من قال مقالتكَ واتبعَ شريعتَكَ، يُحشرُغدا في زمرتكَ، وإذا منادٍ يُنادي: طوفوا به مشارقَ الأرضِ ومغاربهَا، واعرضوهُ على موالد(6) الأنبياءِ، وأعطوهُ صفوةَ آدمَ، ومعرفةَ شيثٍ، ورِقَّةَ نوحٍ، وخِلَّةَ إبراهيمَ، ورضا إسحاقَ، وفصاحةَ إسماعيلَ، وحكمةَ لقمانَ، وصبر أيوبَ، ونغمةَ داود، وقوة موسى، وزهدَ عيسى، وفهمَ سليمانَ، وطبَّ دانيال، ووقارَ إلياسَ، وعصمةَ يحي، وقبَولَ زكريَا، واغمسُوهُ في أخلاقِ النبيينَ كلهم وأخفوهُ عن أعينِ العالمينَ، فهو حبيبُ ربِّ العالمينَ، فطوبى لحِجرٍ ضمَهُ، وطوبى لثديٍ أرضعَهُ، وطوبى لبيوتٍ سكنهَا، فقالت الطيرُ نحن نكفلُهُ، وقالت الملائكةُ نحن أحقُّ بهِ وقالت الوحوشُ نحن نرضعُهُ. قال الله تعالى(7): " أنا أولى بحبيبي ونبِّيي محمّدٍ صلى اللهُ عليهِ وسلم فإنِّي قد كتبتُ أنْ لا تُرضِعَهُ إلاّ أمتي حليمة".
عَطّرِ اللّهُمَّ قَبْرَهُ الكَرِيمْ *** بِعَرْفٍ شَذِيّ مِنْ صَلاَةٍ وَتَسْلِيمْ
قصَّةُ رَضَاعِهِ صلى الله عليه وسلم
والملخص من حديث الرضاع الفرد أن القحط لماعم بني سعدٍ فصار حظهم بمزيد القحط ناقصًا وضرعهم بمزيد الجدب قالصًا، وجليلهم حقيرًاوغنيهم فقيرا، فارتحل بعضهم إلى مكة لبضاعة الرضاعة، ومعهم حليمة مع زوجها الحارث بن رفاعة، وكانت على أتانٍ مقصّرةٍ من الجهد مرةً،ومعها شاة ماتبض من الحليب بقطرةٍ، وصبي لها من حليب أمه عديم، وهو رضيع ولكنه من العدم فطيمٌ، لا يجدان شيئاً لغذائه، ولا ينامان الليل لبكائه، فلما تفرقوا في مكة حين دخلوا إليها لم تبق امرأة إلا وعُرض صلى الله عليه وسلم عليها لكن لعدم سعدها تأباه، إذا قيل لها تَوَفَّى الله أبَاهُ. ولما عُرض على حليمة بهرتها أنواره العظيمة وشغلتها طلعته البارعة في الجمال وملكها حسنه المطلق في الحال، لكن لما ذكر لها يتمه خطر لها ما تصنع لنا امه، فأعرضت عنه ونفرت وتولت، وإليه نظرت، فانصرفت عنه محيرةً، وفي الأخذ وعدمه مفكرةٌ، ثم دارت على غيره فلم ترمن تضمه اليها فقوي اسعد الخاطرين عليها،وفاجأها الخاطر الأسعد،ان تملى لجمال الحبيب احمد،فشاورت زوجها ان تأخذه اوتكون ممن تتركه، فأشاربأخذه وقال:عسى ان تكون فيه بركه، فأخذته فسعدت بأخذه، ثم لم تسمح بعد ذلك برده، ثم إنها عادت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخاطرها قد سكن، واقبل عليه ثدياها بما شاء الله من اللبن، وشرب من اللبن حتى تركه من الشبع، فأدارته الى ثديها الأيسرفامتنع إلهاماً من الله تعالى وتحريكاً كأنه قد علم ان له في ذلك شريكاً فظهر منه حينئذٍ الإنصاف و الفضل، لأنه صلى الله عليه وسلم جبل على الإحسان والعدل، فكان الأيمن يكفيه والثدي الأيسرلأخيه، ففي أول ليلةٍ من أخذ البشيرالنذير قام زوج حليمه إلى الشاة فإذا بها لبن كثير فحلب منها ما كفاهما شراباً، وبرد من جوعهما التهاباً وفي تلك الليلة حصل لأخيه من الرضاع ما يكفيه فقرت بنومه عين أمه وأبيه، فناما أهنأ نوم وحصل لها مالم يحصل للقوم من الخيرات التي أصبحت فيها حليمة غير مشاركةٍ، فقال لها زوجا إني لأرجو أنك قد أخذت نسمةً مباركةً، فلما وصلت به إلى المنازل حليمة، فتح الله عليها خيراتٍ جسيمة، فتقدمت أتانها على الدواب حتى ما يلحقها بهيمة. وحين قدموا أرض بني سعدٍ اهتزت وربت، وأخصبت بعد أن أجدبت، وكثرت مواشي حليمة ونمت، وارتفع قدرها وسمت، ولم تزل ببركته تعرف الخير والسعادة وتفوز بالحسنى وزيادة،كما قيل فيهاشعر:
لَقَدْ بَلَغَتْ بِالهاشِميّ حَلِيمَةٌ *** مَقَامًا عليَّا فِي ذُرَى العِزّ وَالمَجْدِ
وَزَادتْ مَوَاشيهَا وَأخْصَبَ رَبْعُهَا *** وقدْ عَمَّ هَذَا السَّعْدُ كُلَّ بَنِي سَعْدِ
فصار صلى الله عليه وسلم يخرج هو وأخوه إلى المرعى وكانت تصرفاته صلى الله عليه وسلم محفوفةً بالعناية الربانية، إذ جاءهُ في بعض الأيام، جبريل ومعه ميكائيل فأضجعاه وشقا بطنه الكريم كما ورد، وغسلاهُ بماء زَمْزَم والثلج والبرد، وخاطاه بإذن ذي الإكرام والجلال، وختما على ظهره بخاتم النبوة في الحال، فخاف أخوه عليه فأتى إلى أمه وقد سقط في يديها وأخبرها بخبر الرسول والملائكة فخافتْ عليه حليمة بعد ذلك وأعادته إلى امه وسلمته إليها، وقصتْ ما جرى عليه وعليها، فقالت: ما على إبني من بأسٍ فإن الله يحفظه من الجنّ والإنْس، فلما ردته حليمة إلى الوطن، جهزتها امه بجهازحسن، وانصرفت بجفنٍ من الفراق قريحٍ، وقلبٍ من الاشيتاق جريحٍ، وخاطرها بالحبيب مشغول، ولسان حالها يشند ويقول:
يا دَائمَ الفضْلِ والإحْسَانِ للنَّسمِ *** يَا دائِمَ البّرِ أَنْتَ خَيْرُ مَنْ ذُكِرَا
قَدْ أَظْهَرَ الدَّمْعَ مِنيّ الأن مَا سُتِرَا *** وَإِنْ تُرِدْ شَرْحَ حَالِي فِيهمُ سَتَرَى
مُتَيَّماً طَارَ نَوْمي وَالهُمُومُ غَدَتْ *** رَبيعَ قلبي وَرَبْعُ الأنْس قَد صَفِرا
في مُنْحَنَى أَضْلُعي نار الغَضَا وقدَتْ *** ودمعُ عَيْني عَلَى الخَدَّيْنِ مِنْه جَرَى
لا أَوْحَشَ الله مِمَّنْ بِالحَشَا نَزَلُوا *** سَارُوا فَشوقي مقيمٌ وَالسُّرورُ سَرَى
طَوَيْتُ سِرَّ الهَوَى صَوْنًا لحبهِمُ *** واليومَ بالدَّمْعِ كَانَ الطَّيُّ قَدْ نشرا
غَابُوا فَأمسَى جمَِيلُ الصَّبْرِ مُنْفَلِتًا *** فَأَصْبَحَ الدَّمْعُ فِي الأَطْلاَلِ مُنحَدرًا
سَارُوا فَسَارتْ عيوني إثرعِسيهمُ *** واليومَ قَدْ صِرت لاعَيْنًا ولا أَثَرا
اسْتَودِعُ الله فِي ذَاكَ الحِمَى قَمرٌاً *** بِحُسْنِهِ لِقُلوبِ النَّاسِ قَدْ قَمَرا
رَمَى فَأَرْمَى جِمَاَر الشَّوْقِ فِي كَبِدِي *** وَللوَدَاعِ وَقَفْنَا وَالكَرَى نفرَا
تَبَارَكَ الله مَا أَجْلاهُ منْ قَمرٍ *** بِنُورِ طلْعتِهِ قدْ حَيَّرَ الشُعَراَ
تُرَى تَعُودُ لَيالِي الوَصْل تَجْمَعُنَا *** وَيَبْلُغُ الصَّبُّ مِنْ أحْبابِهِ وَطَرَا
يَا قَلْبُ هَذا الذي قَدْ كُنْتُ أحْذَرُهُ *** صَبْراً عَلَى مَا قَضَى طَوْعًا لمِاَ أَمَرَا
وفارقته حليمة، وأحشاؤها بسيف الشوق كليمة، وأقام بين قومه وأهله وكل وقت يزيد الله في فضله وظهر له من الكرامات ما لا يحصى، ومن المحاسن ما لا يحصر استقصا، ثم ماتت أمه أمنة وعمره صلى الله عليه وسلم خمس سنين وقد قاربت عشرين سنةً. قيل: كان رجل بالبصرة يصنع مولدًا للنبي صلى الله عليه وسلم في كل سنةٍ وكان إلى جانبه رجل يهودي فقالت زوجته: ما بال جارنا المسلم يذهب في كل سنةٍ في مثل هذا الشهر مالا كثيرًا فقال لها: يزعم أن نبيه ولد فيه، فلما نامت تلك الليلة رأت رجلاً عليه جلالة ووقار وهيبةٌ وأنوارٌ، وهو بين الصحابة يتبختر كأنه القمر، فقالت لأحدهم: من هذا الكثير الأنوار؟ قال: هذا النبي العربي المختار قالت: أيكلمني إذا كلمته؟ قالوا لها:إنه ليس بمتكبرّ ولا متجبرّ، فقالت اليهودية: يا محمدُ -صلى الله عليه وسلم- فأجابها بعذوبةٍ وبقولٍ لينٍ، فقالت: تقول لمثلي هذا القول وأنا على غير دينك، فقال لها: ما قلت لك ذاك إلا وقد علمت أن الله قد كتب لك ان تهتدي، فقالت:إنك لنبيٌ كريمٌ وإنك لعلى خلق عظيم وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمدٌ رسول الله ثم نذرت في نفسها أنها إذا أصبحت تتصدق بجميع ما تملكه فرحًا بإسلامها وتصنع مولدًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظت من منامها تشهدت قالت أشهد ان لا إله إلا الله وأشهد ان محمدًا رسول الله ثم رأت زوجها قد هيأ الوليمة وهو في همةٍ عظيمةٍ، فقالت:أراك في همةٍ صالحةٍ، فقال:من أجل الذي أسلمت على سببه البارحة، قالت:من كشف لك عن هذا السّرّ وأطلعك عليه؟ قال:الذي أسملت بعدك البارحة على سببه وأنشد لسان الحال:
لا إله إلا الله
لا إله إلا الله
لا إله إلا الله
لا إله إلا الله
محمد رسول الله
إنْ صَحَّ مِنْكَ الرّضَا يَا مَنْ هُوَ الطّلَب *** فَلاَ أُبَالِي بِكُلّ النَّاسِ إِنْ غَضِبُوا
وَإِنْ تَبَدى محَيّاكَ الجَمِيلُ فَدَعْ *** كلَّ الخَلاَئِقِ عَنْ عَيْنَيَّ يَحْتَجِبُ
قَصْدِيْ رِضَاكَ مِن َالدُّنيا بِأَجْمَعِهَا *** يَا مَنْ إلَيْهِ جَميعُ الحُسنِ يَنتسِبُ
كَيْفَ التَّصَبُّرُ وَالسّلْوَانُ عَنْ قَمَرٍ *** مُوَافِقي فِي هَوَاهُ العُجْمُ وَالعَرَبُ
الحمدلله رب العالمين وأفضل الصلاةِ والسَّلام على سيّدِنا محمدٍ الذي جاء بالحقّ المبين، من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى إخوانه الأنبياءِ والمرسلين، اللهمَّ إنَّا فد حضرنا قراءة مولد نبيّكَ الكريم، فأفض علينا ببركته خلع القبول والتكريم، وأسكنّا بجواره في جنّات الَّنعيم، واسقنامن حوضه يوم العطش الأكبر، والهول العظيم، ومتّعنافي الأخرة بالَّنظر إلى ذاتك الكريم، نسألك إلهنا أن تكفّرعنَّاالذنوب والأوزار، وتحرُسنامن سّئ المخاوف والأخطار، وتقبَّل منا ما قدَّمناه من صالح الأعمال في السّرّ والإجهار، اللَّهمّ اجعل جمعنا هذا جمعًا مرحوماً، وتفرّقنامن بعده تفرقاًمباركاً معصوماً، وهب مسيئنا لمحسننا ومقصّرنا لعاملنا ولاتحرمنا خيرما عندك بشرّما عندنا، اللهمّ اجز من اجتمعنا بسببه مزيد برّك وإحسانك، واجمع له بين خيري الدّنيا والأخرة، اللهمَّ لك الحمد على كُلّ حال وَصَلّ يَارَبّ وَسَلّم على أشرف المرسلين سبحان رَبّكَ رَبّ العزّة عَمَّا يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رَبّ العالمين.


---------------------
(1)تساءلت غير معترضة.
(2) اعلم أن كلام الله الذي هو صفه ذاته ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغةً لأن هذا من صفات الخلق. لكن جبريل عليه السلام يسمع كلام الله الذي ليس حرفًا ولا صوتا فيفهم منه الأوامر قل لمحمد كذا قل للملائكة كذا فينفّذ.
(3) أي يُسْمعه كلامه الذي ليس حرفًا ولا صوتًا ولا لغة.
(4) الفخر: الفضل.
(5)الديان الذي يجزي المؤمنين بالجنة ويجزي الكفار بالعذاب.
(6)اي المكان الذي ولد فيه النبيون.
(7)هذا ليس من القرءان.